فصل: ذكر أخبار الردة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه:

فلما بويع أبو بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل: بقي ثلاثة أيام لم يدفن، والأول أصح. وكان الذي يلي غسله علي والعباس والفضل وقثم ابنا العباس وأسامة بن زيد وشقران مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحضرهم أوس بن خولي الأنصاري، وكان بدرياً، وكان العباس وابناه يقلبونه، وأسامة وشقران يصبان الماء، وعلي يغسله وعليه قميصه وهو يقول: بأبي أنت وأمي ما أطيبك حياً وميتاً! ولم ير من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما يرى من ميت.
واختلفوا في غسله في ثيابه أو مجرداً، فألقى الله عليهم النوم ثم كلمهم مكلمٌ لا يدرى من هو أن غسلوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعليه ثيابه، ففعلوا ذلك.
وكفن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في ثلاثة أثواب: ثوبين صحاريين وبرد حبرة أدرج فيها إدراجاً.
واختلفوا في موضع دفنه فقال أبو بكر: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض، فرفع فراشه ودفن موضعه، وحفر له أبو طلحة الأنصاري لحداً ودخل الناس يصلون عليه أرسالاً: الرجال ثم النساء ثم الصبيان ثم العبيد، ودفن ليلة الأربعاء. وكان الذي نزل قبره علي بن أبي طالب والفضل وقثم ابنا العباس وشقران. وقال أوس بن خولي الأنصاري لعلي: أنشدك الله وحظنا من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأمره بالنزول فنزل.
وكان المغيرة بن شعبة يدعي أنه أحدث الناس عهداً برسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويقول: ألقيت خاتمي في قبره عمداً فنزلت لآخذه، وسأل ناس من أهل العراق علياً عن ذلك فقال: كذب المغيرة، أحدثنا عهداً به قثم به العباس.
واختلفوا في عمره يوم مات فقال ابن عباس وعائشة ومعاوية وابن المسيب: كان عمره ثلاثاً وستين سنة. وقال ابن عباس أيضاً ودغفل بن حنظلة: كان عمره خمساً وستين سنة. وقال عروة بن الزبير: كان عمره ستين سنة.

.ذكر إنفاذ جيش أسامة بن زيد:

قد ذكرنا استعمال النبي، صلى الله عليه وسلم، أسامة بن زيد على جيش وأمره بالتوجه إلى الشام، وكان قد ضرب البعث على أهل المدينة ومن حولها وفيهم عمر بن الخطاب، فتوفي النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يسر الجيش، وارتدت العرب إما عامة أو خاصةً من كل قبيلة، وظهر النفاق، واشرأبت يهود والنصرانية، وبقي المسلمون كالغنم في الليلة المطيرة لفقد نبيهم وقلتهم وكثرة عدوهم. فقال الناس لأبي بكر: إن هؤلاء، يعنون جيش أسامة، جند المسلمين، والعرب- على ما ترى- قد انتقضت بك فلا ينبغي أن تفرق جماعة المسلمين عنك. فقال أبو بكر: والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تختطفني لأنفذت جيش أسامة كما أمر النبي، صلى الله عليه وسلم. فخاطب الناس وأمرهم بالتجهز للغزو وأن يخرج كل من هو من جيش أسامة إلى معسكره بالجرف، فخرجوا كما أمرهم، وجيش أبو بكر من بقي من تلك القبائل التي كانت لهم الهجرة في ديارهم، فصاروا مسايح حول قبائلهم، وهم قليل.
فلما خرج الجيش إلى معسكرهم بالجرف وتكاملوا أرسل أسامة عمر بن الخطاب، وكان معه في جيشه، إلى أبي بكر يستأذنه أن يرجع بالناس وقال: إن معي وجوه الناس وحدهم، ولا آمن على خليفة رسول الله وحرم رسول الله والمسلمين أن يتخطفهم المشركون. وقال من مع أسامة من الأنصار لعمر بن الخطاب: إن أبا بكر خليفة رسول الله، فإن أبى إلا أن نمضي فأبلغه عنا واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلاً أقدم سناً من أسامة.
فخرج عمر بأمر أسامة إلى أبي بكر فأخبره بما قال أسامة. فقال: لو خطفتني الكلاب والذئاب لأنقذته كما أمر به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا أرد قضاء قضى به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته. قال عمر: فإن الأنصار تطلب إليك أن تولي أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة. فوثب أبو بكر، وكان جالساً، وأخذ بلحية عمر وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتأمرني أن أعزله؟ ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم وأشخصهم وشيعهم وهو ماشٍ وأسامة راكب، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن! فقال: والله لا نزلت ولا أركب، وما علي أن أغبر قدمي ساعةً في سبيل الله! فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له، وسبعمائة درجة ترفع له، وسبعمائة سيئة تمحى عنه.
فلما أراد أن يرجع قال لأسامة: إن رأيت أن تعينني بعمرٍ فافعل، فأذن له، ثم وصاهم فقال: لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقاً. اندفعوا باسم الله.
وأوصى أسامة أن يفعل ما أمر به رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فسار وأوقع بقبائل من ناس قضاعة التي ارتدت وغنم وعاد، وكانت غيبته أربعين يوماً، وقيل: سبعين يوماً.
وكان إنفاذ جيش أسامة أعظم الأمور نفعاً للمسلمين، فإن العرب قالوا: لو لم يكن بهم قوة لما أرسلوا هذا الجيش، فكفوا عن كثير مما كانوا يريدون أن يفعلوه.

.ذكر أخبار الأسود العنسي باليمن:

واسمه عيهلة بن كعب بن عوف العنسي، بالنون؛ وعنس بطن من مذحج، وكان يلقب ذا الخمار لأنه كان معتماً متخمراً أبداً.
وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، قد جمع لباذان حين أسلم وأسلم أهل اليمن عمل اليمن جميعه وأمره على جميع مخاليفه، فلم يزل عاملاً عليه حتى مات. فلما مات باذان فرق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمراءه في اليمن، فاستعمل عمرو بن حزم على نجران، وخالد بن سعيد بن العاص على ما بين نجران وزبيد، وعامر بن شهر على همدان، وعلى صنعاء شهر ابن باذان، وعلى عك والأشعريين الطاهر بن أبي هالة، وعلى مأرب أبا موسى، وعلى الجند يعلى بن أمية، وكان معاذ معلماً يتنقل في عمالة كل عامل باليمن وحضرموت، واستعمل على أعمال حضرموت زياد بن لبيد الأنصاري، وعلى السكاسك والسكون عكاشة بن ثور، وعلى بني معاوية ابن كندة عبد الله أو المهاجر، فاشتكى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلم يذهب حتى وجهه أبو بكر، فمات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء عماله على اليمن وحضرموت.
وكان أول من اعترض الأسود الكاذب شهر وفيروز وداذويه، وكان الأسود العنسي لما عاد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من حجة الوداع وتمرض من السفر غير مرض موته بلغه ذلك، فادعى النبوة، وكان مشعبذاً يريهم الأعاجيب، فاتبعه مذحج، وكانت ردة الأسود أول ردة في الإسلام على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وغزا نجران فأخرج عنها عمرو ابن حزم وخالد بن سعيد، ووثب قيس بن عبد يغوث بن مكشوح على فروة ابن مسيك، وهو على مراد، فأجلاه ونزل منزله، وسار الأسود عن نجران إلى صنعاء، وخرج إليه شهر بن باذان فلقيه، فقتل شهر لخمس وعشرين ليلة من خروج الأسود، وخرج معاذ هارباً حتى لحق بأبي موسى وهو بمأرب، فلحقا بحضرموت، ولحق بفروة من تم على إسلامه من مذحج.
واستتب للأسود ملك اليمن، ولحق أمراء اليمن إلى الطاهر بن أبي هالة إلا عمراً وخالداً، فإنهما رجعا إلى المدينة، والطاهر بجبال عك وجبال صنعاء، وغلب الأسود على ما بين مفازة حضرموت إلى الطائف إلى البحرين والأحساء إلى عدن، واستطار أمره كالحريق، وكان معه سبعمائة فارس يوم لقي شهراً سوى الركبان، واستغلظ أمره، وكان خليفته في مذحج عمرو ابن معدي كرب، وكان خليفته على جنده قيس بن عبد يغوث، وأمر الأبناء إلى فيروز وداذويه.
وكان الأسود تزوج امرأة شهر بن باذان بعد قتله، وهي ابنة عم فيروز. وخاف من بحضرموت من المسلمين أن يبعث إليهم جيشاً، أو يظهر بها كذاب مثل الأسود، فتزوج معاذ إلى السكون، فعطفوا عليه.
وجاء إليهم وإلى من باليمن من المسلمين كتب النبي، صلى الله عليه وسلم، يأمرهم بقتال الأسود، فقام معاذ في ذلك وقويت نفوس المسلمين، وكان الذي قدم بكتاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وبر بن يحنس الأزدي، قال جشنس الديلمي: فجاءتنا كتب النبي، صلى الله عليه وسلم، يأمرنا بقتاله إما مصادمةً أو غيلةً، يعني إليه وإلى فيروز وداذويه، وأن نكاتب من عنده دين. فعملنا في ذلك، فرأينا أمراً كثيفاً، وكان قد تغير لقيس بن عبد يغوث، فقلنا: إن قيساً يخاف على دمه فهو لأول دعوة، فدعوناه وأبلغناه عن النبي، صلى الله عليه وسلم، فكأنما نزلنا عليه من السماء، فأجابنا، وكاتبنا الناس. فأخبره الشيطان شيئاً من ذلك، فدعا قيساً فأخبره أن شيطانه يأمره بقتله لميله إلى عدوه، فحلف قيس: لأنت أعظم في نفسي من أن أحدث نفسي بذلك. ثم أتانا فقال: يا جشنس ويا فيروز ويا داذويه، فأخبرنا بقول الأسود. فبينا نحن معه يحدثنا إذ أرسل إلينا الأسود فتهددنا، فاعتذرنا إليه ونجونا منه ولم نكد وهو مرتاب بنا ونحن نحذره. فبينا نحن على ذلك إذ جاءتنا كتب عامر بن شهر وذي زودٍ مران وذي الكلاع وذي ظليم يبذلون لنا النصر، فكاتبناهم وأمرناهم أن لا يفعلوا شيئاً حتى نبرم أمرنا، وإنما اهتاجوا لذلك حين كاتبهم النبي، صلى الله عليه وسلم، وكتب أيضاً إلى أهل نجران فأجابوه، وبلغ ذلك الأسود وأحس بالهلاك.
قال: فدخلت على آزاد، وهي امرأته التي تزوجها بعد قتل زوجها شهر ابن باذان، فدعوتها إلى ما نحن عليه وذكرتها قتل زوجها شهر وإهلاك عشيرتها وفضيحة النساء. فأجابت وقالت: والله ما خلق الله شخصاً أبغض إلي منه، ما يقوم لله على حق ولا ينتهي عن محرم، فأعلموني أمركم أخبركم بوجه الأمر. قال: فخرجت وأخبرت فيروز وداذويه وقيساً. قال: وإذ قد جاء رجل فدعا قيساً إلى الأسود، فدخل في عشرة من مذحج وهمدن فلم يقدر على قتله معهم وقال له: ألم أخبرك الحق وتخبرني الكذب؟ إنه، يعني شيطانه، يقول لي: إلا تقطع من قيس يده يقطع رقبتك. فقال قيس: إنه ليس من الحق أن أهلك وأنت رسول الله، فمرني بما أحببت أو اقتلني، فموته أهون من موتات.
فرق له وتركه، وخرج قيس فمر بنا وقال: اعملوا عملكم. ولم يعقد عندنا. فخرج علينا الأسود في جمع، فقمنا له وبالباب مائة ما بين بقرة وبعير، فنحرها ثم خلاها، ثم قال: أحق ما بلغني عنك يا فيروز؟- وبوأ له الحربة- لقد هممت أن أنحرك. فقال: اخترتنا لصهرك وفضلتنا على الأبناء، فلو لم تكن نبياً لما بعنا نصيبنا منك بشيء، فكيف وقد اجتمع لنا بك أمر الدنيا والآخرة فإنا بحيث تحب فقال له: اقسم هذه، فقسمها، ولحق به وهو يسمع سعاية رجل بفيروز وهو يقول له: أنا قاتله غداً وأصحابه، ثم التفت فإذا فيروز فأخبره بقسمتها، ودخل الأسود ورجع فيروز فأخبرنا الخبر، فأرسلنا إلى قيس فجاءنا، فاجتمعنا على أن أعود إلى المرأة فأخبرها بعزيمتنا ونأخذ رأيها، فأتيتها فأخبرتها، فقالت: هو متحرز وليس من القصر شيء إلا والحرس محيطون به غير هذا البيت، فإن ظهره إلى مكان كذا وكذا، فإذا أمسيتم فانقبوا عليه فإنكم من دون الحرس وليس دون قتله شيء، وستجدون فيه سراجاً وسلاحاً.
فخرجت فتلقاني الأسود خارجاً من بعض منازله فقال: ما أدخلك علي؟ ووجأ رأسي حتى سقطت، وكان شديداً، فصاحت المرأة فأدهشته عني ولولا ذلك لقتلني وقالت: جاءني ابن عمي زائراً ففعلت به هذا؟ فتركني، فأتيت أصحابي فقلت: النجاء! الهرب! وأخبرتهم الخبر.
فإنا على ذلك حيارى إذ جاءنا رسولها يقول: لا تدعن ما فارقتك عليه، فلم أزل به حتى اطمأن. فقلنا لفيروز: إيتها فتثبت منها. ففعل، فلما أخبرته قال: ننقب على بيوت مبطنة، فدخل فاقتلع البطانة وجلس عندها كالزائر، فدخل عليها الأسود فأخذته غيرة، فأخبرته برضاع وقرابة منها عنده محرم، فأخرجه. فلما أمسينا عملنا في أمرنا وأعملنا أشياعنا وعجلنا عن مراسلة الهمدانيين والحميريين فنقبنا البيت من خارج ودخلنا، وفيه سراج تحت جفنة، واتقينا بفيروز، كان أشدنا فقلنا: انظر ماذا ترى، فخرج ونحن بينه وبين الحرس. فلما دنا من باب البيت سمع غطيطاً شديداً والمرأة قاعدة، فلما قام على باب البيت أجلس له الشيطان وتكلم على لسانه وقال: ما لي ولك يا فيروز! فخشي إن رجع أن يهلك وتهلك المرأة فعاجله وخالطه وهو مثل الجمل فأخذ برأسه فقتله ودق عنقه ووضع ركبته في ظهره فدقه ثم قام ليخرج، فأخذت المرأة بثوبه وهي ترى أنه لم يقتله. فقال: قد قتلته وأرحتك منه، وخرج فأخبرنا، فدخلنا معه، فخار كما يخور الثور، فقطعت رأسه بالشفرة، وابتدر الحرس المقصورة يقولون: ما هذا؟ فقالت المرأة: النبي يوحى إليه! فخمدوا، وقعدنا نأتمر بيننا، فيروز وداذويه وقس، كيف نخبر أشياعنا، فاجتمعنا على النداء. فلما طلع الفجر نادينا بشعارنا الذي بيننا وبين أصحابنا، ففزع المسلمون والكافرون، ثم نادينا بالأذان فقلت: أشهد أن محمداً رسول الله وأن عيهلة كذاب! وألقينا إليهم رأسه، وأحاط بنا أصحابه وحرسه وشنوا الغارة وأخذوا صبياناً كثيرة وانتهبوا. فنادينا أهل صنعاء من عنده منهم فأمسكه، ففعلوا. فلما خرج أصحابه فقدوا سبعين رجلاً، فراسلونا وراسلناهم على أن يتركوا لنا ما في أيديهم ونترك ما في أيدينا، ففعلنا، ولم يظفروا منا بشيء، وترددوا في ما بين صنعاء ونجران. وتراجع أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى أعمالهم، وكان يصلي بنا معاذ بن جبل، وتبنا إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بخبره، وذلك في حياته.
وأتاه الخبر من ليلته، وقدمت رسلنا، وقد توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأجابنا أبو بكر.
قال ابن عمر: أتى الخبر من السماء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، في ليلته التي قتل فيها، فقال: «قتل العنسي، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين» قيل: من قتله؟ قال: «قتله فيروز».
قيل: كان أول أمر العنسي إلى آخره ثلاثة أشهر، وقيل قريب من أربعة أشهر، وكان قدوم البشير بقتله في آخر ربيع الأول بعد موت النبي، صلى الله عليه وسلم، فكان أول بشارة أتت أبا بكر وهو بالمدينة.
قال فيروز: لما قتلنا الأسود عاد أمرنا كما كان، وأرسلنا إلى معاذ بن جبل فصلى بنا ونحن راجون مؤملون لم يبق شيء نكرهه إلا تلك الخيول من أصحاب الأسود، فأتى موت النبي، صلى الله عليه وسلم، فانتقضت الأمور واضطربت الأرض.
العنسي بالعين والنون.
وفي هذه السنة ماتت فاطمة بنت النبي، صلى الله عليه وسلم، في ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان وهي ابنة تسع وعشين سنة أو نحوها، وقيل: توفيت بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، بثلاثة أشهر، وقيل: بستة أشهر، وغسلها علي وأسماء بنت عميس، وصلى عليها العباس بن عبد المطلب، ودخل قبرها العباس وعلي والفضل بن العباس.
وفيها توفي عبد الله بن أبي بكر الصديق، وكان أصابه سهم بالطائف وهو مع النبي، صلى الله عليه وسلم، رماه به أبو محجن ثم انتفض عليه فمات في شوال.
وفي هذا العام الذي بويع فيه أبو بكر ملك يزدجر بلاد فارس.
وفيه، أعني سنة إحدى عشرة، اشترى عمر بن الخطاب مولاه أسلم بمكة من ناس من الأشعريين.

.ذكر أخبار الردة:

قال عبد الله بن مسعود: لقد قمنا بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مقاماً كدنا نهلك فيه لولا أن الله من علينا بأبي بكر، أجمعنا على أن لا نقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون، وأن نأكل قرى عربية ونعبد الله حتى يأتينا اليقين، فعزم الله لأبي بكر على قتالهم، فوالله ما رضي منهم إلا بالخطة المخزية أو الحرب المجلية، فأما الخطة المخزية فأن يقروا بأن من قتل منهم في النار ومن قتل منا في الجنة، وأن يدوا قتلانا ونغنم ما أخذنا منهم، وأن ما أخذوا منا مردودٌ علينا. وأما الحرب المجلية فأن يخرجوا من ديارهم.
وأما أخبار الردة فإنه لما مات النبي، صلى الله عليه وسلم، وسير أبو بكر جيش أسامة ارتدت العرب وتضرمت الأرض ناراً وارتدت كل قبيلة عامة أو خاصة إلا قريشاً وثقيفاً، واستغلظ أمر مسيلمة وطليحة، واجتمع على طليحة عوام طيء وأسد، وارتدت غطفان تبعاً لعيينة بن حصن، فإنه قال: نبي من الحليفين، يعني أسداً وغطفان، أحب إلينا من نبي من قريش، وقد مات محمد وطليحة حي، فاتبعه وتبعته غطفان. وقدمت رسل النبي، صلى الله عليه وسلم، من اليمامة وأسد وغيرهما وقد مات فدفعوا كتبهم لأبي بكر وأخبروه الخبر عن مسيلمة وطليحة، فقال: لا تبرحوا حتى تجيء رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتهم، فكان كذلك، وقدمت كتب أمراء النبي، صلى الله عليه وسلم، من كل مكان بانتفاض العرب عامة أو خاصة وتسلطهم على المسلمين، فحاربهم أبو بكر بما كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يحاربهم، بالرسل، فرد رسلهم بأمره وأتبع رسلهم رسلاً وانتظر بمصادمتهم قدوم أسامة، فكان عمال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على قضاعة وكلب امرؤ القيس بن الأصبغ الكلبي، وعلى القين عمرو بن الحكم، وعلى سعد هذيم معاوية الوالبي، فارتد وديعة الكلبي فيمن تبعه، وبقي امرؤ القيس على دينه، وارتد زميل بن قطبة القيني، وبقي عمرو، وارتد معاوية فيمن اتبعه من سعد هذيم، فكتب أبو بكر إلى امرىء القيس، وهو جد سكينة بنت الحسين، فسار بوديعة إلى عمرو، فأقام لزميل، وإلى معاوية العذري، وتوسطت خيل أسامة ببلاد قضاعة فشن الغارة فيهم، فغنموا وعادوا سالمين.

.ذكر خبر طليحة الأسدي:

وكان طليحة بن خويلد الأسدي من بني أسد بن خزيمة قد تنبأ في حياة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فوجه إليه النبي، صلى الله عليه وسلم، ضرار بن الأزور عاملاً على بني أسد وأمرهم بالقيام على من ارتد، فضعف أمر طليحة حتى لم يبق إلا أخذه، فضربه بسيف، فلم يصنع فيه شيئاً، فظهر بين الناس أن السلاح لا يعمل فيه، فكثر جمعه. ومات النبي، صلى الله عليه وسلم، وهم على ذلك، فكان طليحة يقول: إن جبرائيل يأتيني، وسجع للناس الأكاذيب، وكان يأمرهم بترك السجود في الصلاة ويقول: إن الله لا يصنع بتعفر وجوهم وتقبح أدباركم شيئاً، اذكروا الله أعفة قياماًن إلى غير ذلك، وتبعه كثير من العرب عصبيةً، فلهذا كان أكثر أتباعه من أسد وغطفان وطيء. فسارت فزارة وغطفان إلى جنوب طيبة، وأقامت طيء على حدود أراضيهم وأسد بسميراء، واجتمعت عبس وثعلبة ابن سعد ومرة بالأبرق من الربذة، واجتمع إليهم ناس من بني كنانة، فلم تحملهم البلاد فافترقوا فرقتين، أقامت فرقة بالأبرق، وسارت فرقة إلى ذي القصة، وأمدهم طليحة بأخيه حبال، فكان عليهم وعلى من معهم من الدئل وليث ومدلج، وأرسلوا إلى المدينة يبذلون الصلاة ويمنعون الزكاة، فقال أبو بكر: والله لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليه. وكان عقل الصدقة على أهل الصدقة وردهم، فرجع وفدهم، فأخبروهم بقلة من في المدينة وأطمعوهم فيها.
وجعل أبو بكر بعد مسير الوفد على أنقاب المدينة علياً وطلحة والزبير وابن مسعود، وألزم أهل المدينة بحضور المسجد خوف الغارة من العدو لقربهم، فما لبثوا إلا ثلاثاً حتى طرقوا المدينة غارة مع الليل وخلفوا بعضهم بذي حسى ليكونوا لهم ردءاً، فوافوا ليلاً الأنقاب وعليها المقاتلة فمنعوهم، وأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر فأرسل إليهم أبو بكر أن الزموا أماكنكم ففعلوا، فرج إلى أهل المسجد على النواضح، فردوا العدو واتبعوهم حتى بلغوا ذا حسىً، فخرج عليهم الردء بأنحاء قد نفخوها وفيها الحبال، ثم دهدهوها بأرجلهم على الأرض، فنفرت إبل المسلمين وهم عليها ورجعت بهم إلى المدينة ولم يصرع مسلمٌ.
وظن الكفار بالمسلمين الوهن، وبعثوا إلى أهل ذي القصة بالخبر، فقدموا عليهم، وبات أبو بكر يعبي الناس، وخرج على تعبية يمشي وعلى ميمنته النعمان بن مقرن وعلى ميسرته عبد الله بن مقرن وعلى أهل الساقة سويد ابن مقرن. فما طلع الفجر إلا وهم والعدو على صعيد واحد، فما شعروا بالمسلمين حتى وضعوا فيهم السيوف، فما ذر قرن الشمس حتى ولوهم الأدبار وغلبوهم على عامة ظهرهم وقتل رجال، واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة، وكان أول الفتح، ووضع بها النعمان بن مقرن في عدد، ورجع إلى المدينة، فذل له المشركون. فوثب بنو عبس وذبيان على من فيهم من المسلمين فقتلوهم، فحلف أبو بكر ليقتلن في المشركين بمن قتلوا من المسلمين وزيادة، وازداد المسلمون قوة وثباتاً.
وطرقت المدينة صدقات نفر كانوا على صدقة الناس، بهم صفوان والزبرقان بن بدر وعي بن حاتم، وذلك لتمام ستين يوماً من مخرج أسامة، وقدم أسامة بعد ذلك بأيام، وقيل: كانت غزوته وعوده في أربعين يوماً. فلما قدم أسامة استخلفه أبو بكر على المدينة وجنده معه ليستريحوا ويريحوا ظهرهم، ثم خرج فيمن كان معه، فناشده المسلمون ليقيم، فأبى وقال: لأواسينكم بنفسي. وسار إلى ذي حسىً وذي القصة حتى نزل بالأبرق فقاتل من به، فهزم الله المشركين وأخذ الحطيئة أسيراً، فطارت عبس وبنو بكر، وأقام أبو بكر بالأبرق أياماً، وغلب علي بني ذبيان وبلادهم وحماها لدواب المسلمين وصدقاتهم.
ولما انهزمت عبس وذبيان رجعوا إلى طليحة وهو ببزاخة، وكان رحل من سميراء إليها، فأقام عليها، وعاد أبو بكر إلى المدينة. فلما استراح أسامة وجنده، وكان قد جاءهم صدقات كثيرة تفضل عليهم، قطع أبو بكر البعوث وعقد الألوية، فعقد أحد عشر لواء، عقد لواء لخالد بن الوليد وأمره بطليحة بن خويلد فإذا فرغ سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له، وعقد لعكرمة بن أبي جهل وأمره بمسيلمة، وعقد للمهاجر بن أبي أمية وأمره بجنود العنسي ومعونة الأبناء على قيس بن مكشوح ومن أعانه من أهل اليمن عليهم، ثم يمضي إلى كندة بحضرموت، وعقد لخالد بن سعيد وبعثه إلى الحمقتين من مشارف الشام، وعقد لعمرو بن العاص وأرسله إلى قضاعة، وعقد لحذيفة بن محصن الغلفاني وأمره بأهل دبا، وعقد لعرفجة بن هرثمة وأمره بمهرة وأمرهما أن يجتمعا وكل واحد منهما على صاحبه في عمله. وبعث شرحبيل بن حسنة في أثر عكرمة بن أب جهل وقال: إذا فرغ من اليمامة فالحق بقضاعة وأنت على خيلك تقاتل أهل الردة. وعقد لمعن بن حاجز وأمره ببني سليم ومن معهم من هوازن، وعقد لسويد بن مقرن وأمره بتهامة باليمن، وعقد للعلاء بن الحضرمي وأمره بالبحرين، ففصلت الأمراء من ذي القصة ولحق بكل أمير جنده، وعهد إلى كل أمير وكتب إلى جميع المرتدين نسخة واحدة يأمرهم بمراجعة الإسلام ويحذرهم، وسير الكتب إليهم مع رسله. ولما انهزمت عبس وذبيان ورجعوا إلى طليحة ببزاخة أرسل إلى جديلة والغوث من طيء يأمرهم باللحاق به، فتعجل إليه بعضهم وأمروا قومهم باللحاق بهم، فقدموا على طليحة.
وكان أبو بكر بعث عدي بن حاتم قبل خالد إلى طيء وأتبعه خالداً وأمره أن يبدأ بطيء ومنهم يسير إلى بزاخة ثم يثلث بالبطاح ولا يبرح إذا فرغ من قوم حتى يأذن له. وأظهر أبو بكر للناس أنه خارج إلى خيبر بجيش حتى يلاقي خالداً، يرهب العدو بذلك.
وقدم عدي على طيء فدعاهم وخوفهم، فأجابوه وقالوا له: استقبل الجيش فأخره عنا حتى نستخرج من عند طليحة منا لئلا يقتلهم. فاستقبل عدي خالداً وأخبره بالخبر، فتأخر خالد، وأرسلت طيء إلى إخوانهم عند طليحة فلحقوا بهم، فعادت طيء إلى خالد بإسلامهم، ورحل خالد يريد جديلة، فاستمهله عدي عنهم، ولحق بهم عدي بهم يدعوهم إلى الإسلام، فأجابوه، فعاد إلى خالد بإسلامهم، ولحق بالمسلمين ألف راكب منهم، وكان خير مولود في أرض طيء وأعظمه بركة عليهم.
وأرسل خالد بن الوليد عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم الأنصاري طليعةً، فلقيهما حبال أخو طليحة فقتلاه، فبلغ خبره طليحة فخرج هو وأخو سلمة، فقتل طليحة عكاشة وقتل أخوه ثابتاً ورجعا.
وأقبل خالد بالناس فرأوا عكاشة وثابتاً قتيلين، فجزع لذلك المسلمون، وانصرف بهم خالد نحو طيء، فقالت له طيء: نحن نكفيك قيساً، فإن بني أسد حلفاؤنا. فقال: قاتلوا أي الطائفتين شئتم. فقال عدي بن حاتم: لو نزل هذا على الذين هم أسرتي فالأدنى لجاهدتهم عليه، والله لا أمتنع عن جهاد بني أسد لحلفهم. فقال له خالد: إن جهاد الفريقين جهادٌ، لا تخالف رأي أصحابك وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط؛ ثم تعبى لقتالهم، ثم سار حتى التقيا على بزاخة، وبنو عامر قريباً يتربصون على من تكون الدائرة، قال: فاقتتل الناس على بزاخة.
وكان عيينة بن حصن مع طليحة في سبعمائة من بني فزارة، فقاتلوا قتالاً شديداً وطليحة متلفف في كسائه يتنبأ لهم، فلما اشتدت الحر كر عيينة على طليحة وقال له: هل جاءك جبرائيل بعد؟ قال: لا، فرجع فقاتل، ثم كر على طليحة فقال له: لا أبا لك! أجاءك جبرائيل؟ قال: لا. فقال عيينة: حتى متى؟ والله بلغ منا! ثم رجع فقاتل قتالاً شديداً ثم كر على طليحة فقال: هل جاءك جبرائيل؟ قال: نعم. فماذا قال لك؟ قال: قال لي: إن لك رحاً كرحاه، وحديثاً لا تنساه. فقال عيينة: قد علم الله أنه سيكون حديث لا تنساه، انصرفوا يا بني فزارة فإنه كذاب، فانصرفوا وانهزم الناس.
وكان طليحة قد أعد فرسه وراحلته لامرأته النوار، فلما غشوه ركب فرسه وحمل امرأته ثم نجا بها وقال: يا معشر فزارة من استطاع أن يفعل هكذا وينجو بامرأته فليفعل. ثم انهزم فلحق بالشام، ثم نزل على كلب فأسلم حين بلغه أن أسداً وغطفان قد أسلموا، ولم يزل مقيماً في كلب حتى مات أبو بكر.
وكان خرج معتمراً في إمارة أبي بكر ومر بجنبات المدينة، فقيل لأبي بكر: هذا طليحة! فقال: ما أصنع به؟ قد أسلم! ثم أتى عمر فبايعه حين استخلف. فقال له: أنت قاتل عكاشة وثابت؟ والله لا أحبك أبداً! فقال: يا أمير المؤمنين ما يهمك من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهني بأيديهما! فبايعه عمر وقال له: ما بقي من كهانتك؟ فقال: نفخة أو نفختان بالكير. ثم رجع إلى قومه فأقام عندهم حتى خرج إلى العراق.
ولما انهزم الناس عن طليحة أسر عيينة بن حصن، فقدم به على أبي بكر، فكان صبيان المدينة يقولون له وهو مكتوف: يا عدو الله أكفرت بعد إيمانك؟ فيقول: والله ما آمنت بالله طرفة عين. فتجاوز عنه أبو بكر وحقن دمه.
وأخذ من أصحاب طليحة رجل كان عالماً به، فسأله خالد عما كان يقول، فقال: إن مما أتى به: والحمام واليمام، والصرد الصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام.
قال: ولم يؤخذ منهم سبي لأنهم كانوا قد أحرزوا حريمهم، فلما انهزموا أقروا بالإسلام خشية على عيالاتهم، فآمنهم.
حبال بكسر الحاء المهملة، وفتح الباء الموحدة، وبعد الألف لام. وذو القصة بفتح القاف، والصاد المهملة. وذو حسىً بضم الحاء المهملة، والسين المهملة المفتوحة. ودبا بفتح الدال المهملة، وبالباء الموحدة. وبزاخة بضم الباء الموحدة، وبالزاي، والخاء المعجمة.